كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والرزق مشغلة النفوس، وبخاصة تلك التي لم يستغرقها الإيمان. ولكن ابتغاء الرزق من الله وحده حقيقة لا مجرد استثارة للميول الكامنة في النفوس.
وفي النهاية يهتف بهم إلى واهب الأرزاق المتفضل بالنعم، ليعبدوه ويشكروه:
{واعبدوه واشكروا له}.
وأخيرًا يكشف لهم أنه لا مفر من الله، فمن الخير أن يثوبوا إليه مؤمنين عابدين شاكرين:
{إليه ترجعون}.
فإن كذبوا بعد ذلك كله فما أهون ذلك! فلن يضر الله شيئًا، ولن يخسر رسوله شيئًا. فقد كذب الكثيرون من قبل، وما على الرسول إلا واجب التبليغ:
{وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين}.
وهكذا يأخذهم خطوة خطوة، ويدخل إلى قلوبهم من مداخلها، ويوقع على أوتارها في دقة عميقة، وهذه الخطوات تعد نموذجًا لطريقة الدعوة جديرًا بأن يتملاه أصحاب كل دعوة، لينسجوا على منواله في مخاطبة النفوس والقلوب.
وقبل أن يمضي السياق إلى نهاية القصة، يقف وقفة يخاطب بها كل منكر لدعوة الإيمان بالله على الإطلاق؛ المكذبين بالرجعة إلى الله والبعث والمآب:
{أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم}.
إنه خطاب لكل منكر لله ولقائه. خطاب دليله هذا الكون؛ ومجاله السماء والأرض؛ على طريقة القرآن في اتخاذ الكون كله معرضًا لآيات الإيمان ودلائله؛ وصفحة مفتوحة للحواس والقلوب، تبحث فيها عن آيات الله، وترى دلائل وجوده ووحدانيته، وصدق وعده ووعيده. ومشاهد الكون وظواهره حاضرة أبدًا لا تغيب عن إنسان. ولكنها تفقد جدتها في نفوس الناس بطول الألفة؛ ويضعف إيقاعها على قلوب البشر بطول التكرار. فيردهم القرآن الكريم إلى تلك الروعة الغامرة، وإلى تلك الآيات الباهرة بتوجيهه الموحي، المحيي للمشاهد والظواهر في القلوب والضمائر، ويثير تطلعهم وانتباههم إلى أسرارها وآثارها. ويجعل منها دلائله وبراهينه التي تراها الأبصار وتتأثر بها المشاعر، ولا يتخذ طرائق الجدل الذهني البارد والقضايا المنطقية التي لا حياة فيها ولا حركة. تلك التي وفدت على التفكير الإسلامي من خارجه فظلت غريبة عليه، وفي القرآن المثل والمنهج والطريق.
{أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير}.
وإنهم ليرون كيف يبدئ الله الخلق. يرونه في النبتة النامية، وفي البيضة والجنين، وفي كل ما لم يكن ثم يكون؛ مما لا تملك قدرة البشر مجتمعين ومنفردين أن يخلقوه أو يدعوا أنهم خالقوه! وإن سر الحياة وحده لمعجز، كان وما يزال؛ معجز في معرفة منشئه وكيف جاء ودع عنك أن يحاوله أحد أو يدعيه ولا تفسير له إلا أنه من صنع الله الذي يبدئ الخلق في كل لحظة تحت أعين الناس وإدراكهم، وهم يرون ولا يملكون الإنكار!.
فإذا كانوا يرون إنشاء الخلق بأعينهم؛ فالذي أنشأه يعيده:
{إن ذلك على الله يسير}.
وليس في خلق الله شيء عسير عليه تعالى. ولكنه يقيس البشر بمقاييسهم. فالإعادة أيسر من البدء في تقديرهم. وإلا فالبدء كالإعادة، والإعادة كالبدء بالقياس إلى قدرة الله سبحانه. وإنما هو توجه الإرادة وكلمة: كن. فيكون.
ثم يدعوهم إلى السير في الأرض، وتتبع صنع الله وآياته في الخلق والإنشاء، في الجامد والحي سواء، ليدركوا أن الذي أنشأ يعيد بلا عناء:
{قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير}.
والسير في الأرض يفتح العين والقلب على المشاهد الجديدة التي لم تألفها العين ولم يملها القلب. وهي لفتة عميقة إلى حقيقة دقيقة. وإن الإنسان ليعيش في المكان الذي ألفه فلا يكاد ينتبه إلى شيء من مشاهده أو عجائبه؛ حتى إذا سافر وتنقل وساح استيقظ حسه وقلبه إلى كل مشهد، وإلى كل مظهر في الأرض الجديدة، مما كان يمر على مثله أو أروع منه في موطنه دون التفات ولا انتباه. وربما عاد إلى موطنه بحس جديد وروح جديد ليبحث ويتأمل ويعجب بما لم يكن يهتم به قبل سفره وغيبته. وعادت مشاهد موطنه وعجائبها تنطق له بعد ما كان غافلًا عن حديثها؛ أو كانت لا تفصح له بشيء ولا تناجيه!.
فسبحان منزل هذا القرآن، الخبير بمداخل القلوب وأسرار النفوس.
{قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق}.
إن التعبير هنا بلفظ الماضي {كيف بدأ الخلق} بعد الأمر بالسير في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق. يثير في النفس خاطرًا معينًا. ترى هنالك في الأرض ما يدل على نشأة الحياة الأولى، وكيفية بدء الخليقة فيها. كالحفريات التي يتتبعها بعض العلماء اليوم ليعرفوا منها خط الحياة؛ كيف نشأت؟ وكيف انتشرت؟ وكيف ارتقت؟ وإن كانوا لم يصلوا إلى شيء في معرفة سر الحياة: ما هي؟ ومن أين جاءت إلى الأرض؟ وكيف وجد فيها أول كائن حي؟ ويكون ذلك توجيهًا من الله للبحث عن نشأة الحياة الأولى والاستدلال به عند معرفتها على النشأة الآخرة.
ويقوم بجانب هذا الخاطر خاطر آخر. ذلك أن المخاطبين بهذه الآية أول مرة لم يكونوا مؤهلين لمثل هذا البحث العلمي الذي نشأ حديثًا؛ فلم يكونوا بمستطيعين يومئذ أن يصلوا من ورائه إلى الحقيقة المقصودة به لو كان ذلك هو المقصود فلابد أن القرآن كان يطلب منهم أمرًا آخر داخلًا في مقدورهم، يحصلون منه على ما ييسر لهم تصور النشأة الآخرة.
ويكون المطلوب حينئذ أن ينظروا كيف تبدأ الحياة في النبات والحيوان والإنسان في كل مكان. ويكون السير في الأرض كما أسلفنا لتنبيه الحواس والمشاعر برؤية المشاهد الجديدة، ودعوتها إلى التأمل والتدبر في آثار قدرة الله على إنشاء الحياة التي تبرز في كل لحظة من لحظات الليل والنهار.
وهناك احتمال أهم يتمشى مع طبيعة هذا القرآن؛ وهو أنه يوجه توجيهاته التي تناسب حياة الناس في أجيالهم جميعًا، ومستوياتهم جميعًا، وملابسات حياتهم جميعًا، ووسائلهم جميعًا. ليأخذ كل منها بما تؤهله له ظروف حياته ومقدراته. ويبقى فيها امتداد يصلح لقيادة الحياة ونموها أبدًا. ومن ثم لا يكون هناك تعارض بين الخاطرين.
هذا أقرب وأولى.
{إن الله على كل شيء قدير}.
يبدأ الحياة ويعيدها بهذه القدرة المطلقة التي لا تتقيد بتصورات البشر القاصرة، وما يحسبونه قوانين يقيسون عليها الممكن وغير الممكن، بما يعرفونه من تجاربهم المحدودة!.
ومن قدرة الله على كل شيء: تعذيبه لمن يشاء ورحمته لمن يشاء، وإليه وحده المآب؛ لا يعجزه أحد، ولا يمتنع عليه أحد:
{يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير}.
والعذاب والرحمة يتبعان مشيئة الله؛ من حيث أنه بين طريق الهدى وطريق الضلال؛ وخلق للإنسان من الاستعداد ما يختار به هذا أو ذاك، ويسر له الطريقين سواء، وهو بعد ذلك، وما يختار غير أن اتجاهه إلى الله ورغبته في هداه، ينتهيان به إلى عون الله له كما كتب على نفسه وإعراضه عن دلائل الهدى وصده عنها يؤديان به إلى الانقطاع والضلال. ومن ثم تكون الرحمة ويكون العذاب.
{وإليه تقلبون}.
تعبير عن المآب فيه عنف، يناسب المعنى بعده:
{وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء}.
فليس لكم من قوة في هذا الوجود تمتنعون بها من الانقلاب إلى الله. لا من قوتكم في الأرض، ولا من قوة ما تعبدونه أحيانًا من الملائكة والجن وتحسبون له قوة في السماء.
{وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير}.
وأين من دون الله الولي والنصير؟ أين الولي والنصير من الناس؟ أو من الملائكة والجن؟ وكلهم عباد من خلق الله لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا فوق أن يملكوا لسواهم شيئًا؟
{والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم}.
ذلك أنه لا ييأس الإنسان من رحمة الله إلا حين يكفر قلبه، وينقطع ما بينه وبين ربه. وكذلك هو لا يكفر إلا وقد يئس من اتصال قلبه بالله، وجفت نداوته، ولم يعد له إلى رحمة الله سبيل. والعاقبة معروفة: {وأولئك لهم عذاب أليم}.
وبعد هذا الخطاب المعترض في ثنايا القصة، الذي جاء خطابًا لكل منكر لدعوة الإيمان ولقوم إبراهيم ضمنًا. بعد هذا الخطاب يعود لبيان جواب قوم إبراهيم، فيبدو هذا الجواب غريبًا عجيبًا، ويكشف عن تبجح الكفر والطغيان، بما يملك من قوة ومن سلطان:
{فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}.
اقتلوه أو حرقوه. ردًا على تلك الدعوة الواضحة البسيطة المرتبة التي خاطب بها قلوبهم وعقولهم على النحو الذي بينا قيمته في عرض الدعوات.
وإذ أن الطغيان أسفر عن وجهه الكالح؛ ولم يكن إبراهيم عليه السلام يملك له دفعًا، ولا يستطيع منه وقاية. وهو فرد أعزل لا حول له ولا طول. فهنا تتدخل القدرة سافرة كذلك. تتدخل بالمعجزة الخارقة لمألوف البشر:
{فأنجاه الله من النار}.
وكان في نجاته من النار على النحو الخارق الذي تمت به آية لمن تهيأ قلبه للإيمان. ولكن القوم لم يؤمنوا على الرغم من هذه الآية الخارقة، فدل هذا على أن الخوارق لا تهدي القلوب، إنما هو الاستعداد للهدى والإيمان:
{إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}.
الآية الأولى هي تلك النجاة من النار. والآية الثانية هي عجز الطغيان عن إيذاء رجل واحد يريد الله له النجاة. والآية الثالثة هي أن الخارقة لا تهدي القلوب الجاحدة. ذلك لمن يريد أن يتدبر تاريخ الدعوات، وتصريف القلوب، وعوامل الهدى والضلال.
ويمضي في القصة بعد نجاة إبراهيم من النار. فلقد يئس من إيمان القوم الذين لم تلن قلوبهم للمعجزة الواضحة. فإذا هو يجبههم بحقيقة أمرهم، قبل أن يعتزلهم جميعًا:
{وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانًا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضًا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين}.
إنه يقول لهم: إنكم اتخذتم الأوثان من دون الله، لا اعتقادًا واقتناعًا بأحقية هذه العبادة؛ إنما يجامل بعضكم بعضًا، ويوافق بعضكم بعضًا، على هذه العبادة؛ ولا يريد الصاحب أن يترك عبادة صاحبه حين يظهر الحق له استبقاء لما بينكم من مودة على حساب الحق والعقيدة! وإن هذا ليقع في الجماعات التي لا تأخذ العقيدة مأخذ الجد، فيسترضي الصاحب صاحبه على حساب العقيدة؛ ويرى أمرها أهون من أن يخالف عليه صديقه! وهي الجد كل الجد. الجد الذي لا يقبل تهاونًا ولا استرخاء ولا استرضاء.
ثم يكشف لهم عن صفحتهم في الآخرة. فإذا المودة التي يخشون أن يمسوها بالخلاف على العقيدة، والتي يبقون على عبادة الأوثان محافظة عليها. إذا هي يوم القيامة عداء ولعن وانفصام:
{ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضًا}.
يوم يتنكر التابعون للمتبوعين، ويكفر الأولياء بالأولياء، ويتهم كل فريق صاحبه أنه أضله، ويلعن كل غوي صاحبه الذي أغواه!.
ثم لا يجدي ذلك الكفر والتلاعن شيئًا، ولا يدفع عن أحد عذابًا:
{ومأواكم النار وما لكم من ناصرين}.
النار التي أرادوا أن يحرقوه بها، فنصره الله منها ونجاه. فأما هم فلا نصرة لهم ولا نجاة!.
وانتهت دعوة إبراهيم لقومه، والمعجزة التي لا شك فيها. انتهت هذه وتلك بإيمان فرد واحد غير امرأته هو لوط. ابن أخيه فيما تذكر بعض الروايات. وهاجر معه من أور الكلدانيين في العراق، إلى ما وراء الأردن حيث استقر بهما المقام:
{فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم}.
ونقف أمام قولة لوط: {إني مهاجر إلى ربي}. لنرى فيم هاجر. إنه لم يهاجر للنجاة. ولم يهاجر إلى أرض أو كسب أو تجارة. إنما هاجر إلى ربه. هاجر متقربًا له ملتجئًا إلى حماه. هاجر إليه بقلبه وعقيدته قبل أن يهاجر بلحمه ودمه. هاجر إليه ليخلص له عبادته ويخلص له قلبه ويخلص له كيانه كله في مهجره، بعيدًا عن موطن الكفر والضلال. بعد أن لم يبق رجاء في أن يفيء القوم إلى الهدى والإيمان بحال.
وعوض الله إبراهيم عن وطنه وعن قومه وعن أهله عوضه عن هذا كله ذرية تمضي فيها رسالة الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فكل الأنبياء وكل الدعوات بعده كانت في ذريته. وهو عوض ضخم في الدنيا وفي الآخرة:
{ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}.
وهو فيض من العطاء جزيل، يتجلى فيه رضوان الله سبحانه على الرجل الذي يتمثل فيه الخلوص لله بكليته، والذي أجمع الطغيان على حرقه بالنار، فكان كل شيء من حوله بردًا وسلامًا، وعطفًا وإنعامًا. جزاءً وفاقًا.